فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم}.
جعل الزمخشري العطف ب {ثم} لبعد ما بين منزلة الإيمان والكفر.
قال ابن عرفة: ولا يبعد أن تكون على بابها.
فرد عليه بأن جعل بعد ذلك لابتداء الغاية فتناقض مهلة {ثم}؟
فأجاب بأن دلالة {ثمّ} على المهلة نص لا يحتمل غيره، فهو أقوى من دلالة {من} على ابتداء الغاية.
وقال أبو حيان: السياق يقتضي أنها لبعد ما بين المنزلتين.
ورده ابن عرفة بأن الأصوليين رجّحوا الدلالة باللّفظ على الدلالة المفهومة من السياق.
قيل لابن عرفة: يلزم على ما قلت أن يكونوا مرّ عليهم زمَن هم فيه مؤمنون؟ فقال: نعم وهو المناسب وهو الزمن الذي كان فيه الرّسول موسى بين أظهرهم، وظاهر الآية أن العقل في القلب.
قوله تعالى: {فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
منع أبو حيان أن تكون الكاف بمعنى مثل محتجا بأنه ليس مذهب سيبويه.
وأجاب ابن عرفة بأن ذلك إنما هو إذا جعلها حرفا.
ونحن نقول: إنها اسم.
وأورد الشيخ الطيبي: إن القلوب شبهت بالحجارة مع أن المشبه بالحجارة إنما هو قسوتها شبيهة بقسوة الحجارة.
وأجاب: بأن التشبيه في الحقيقة راجع للقسوة، أي صلبت وخلت من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قاله ابن عطية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد قلوب ورثة القتيل لَمّا أخبرَ بمن قتله ومات قالوا: كذب.
قال ابن عرفة: فالمراد أنّها دامت على القسوة، أو زادت قسوتها لأنهم لم يزالوا قبل ذلك منكرين للقتل، قال: ويضعف هذا بأنه لما قتل قاتل القتيل انقطعت تلك القسوة فلم يبق من هو متصف بها.
وجعل السّكاكي هذا من ترشيح المجاز.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار}.
قال الطيبي: إنّها تذليل لما قبلها لأنها في معناها.
قال ابن عرفة: الصواب أنها تعليل أو بيان للوجه الّذي كانت به أشدّ من الحجارة ودليل عليه.
وهذا تدلي أو ترقي الذّمّ وهو أولى من العكس لأن الحجارة التي تتفجر منها الأنهار أفضل وأعلى من الحجارة التي تنشق فيخرج منها الماء.
ويلزم من كونها أشد قسوة من التي تنشق فيخرج منها الماء أن تكون أشد قسوة من المتفجرة عن الأنهار فلذلك أتى به بعده.
ولو قيل: إن من الحجارة لما ينشق فيخرج منها الماء، وإن منها لما يتفجر منه الأنهار لكان تأكيدا. انتهى.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله}.
قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية أنّ الأفضلية ثبتت للجنس بثبوتها لبعض أفراده لأنّ الحجارة الموصوفة بذلك هي بعض من كل، وقد ثبت التفضيل للجميع بقوله: فهي كالحجارة، ولم يقل فهي كالحجارة الموصوفة بكذا، والحجارة عام إما بالألف واللام أو بالسياق فقد فضل عليهم جميع الحجارة.
قيل لابن عرفة: هذا تقسيم مستوفى فليس من الحجارة شيء إلا داخل فيه؟
فقال: الحجارة التي تتفجر منها الأنهار، والتي تنشق عن الماء لا قساوة فيها بوجه، وهم إنّما ذُمّوا بمشاركتهم للأحجار في القساوة مع الزيادة عليها فقد فضلت عليهم الحجارة القاسية لكونها من جنس ما هو غير قاس.
قيل له: فكل ما نراه من الأحجار ساقطا من فوق، هلا تقول: إنه هبط من خشية الله؟ فقال: الآية إنما دلت على أن بعض الحجارة يهبط من خشية الله لا كلها، وكل ما نراه هابطا يجوز أن يكون هبوطه من خشية الله.
قال الفخر: وهذا مثل قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله} قال ابن عرفة: ليست مثلها لأن تلك شرطية، والشرط قد يتركب من المحال بخلاف هذه.
قال: وقوله: {مِنْ خَشْيَةِ الله} هو قيد في الجميع، لأن تفجر الأنهار أيضا من خشية الله. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{ثم قست قلوبكم من بعد ذلك}، قال الزمخشري، معنى ثم قست: استبعاد القسوة بعدما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه، ثم أنتم تمترون. انتهى.
وهو يذكر عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد، ولذلك قيل عنه في قوله: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وهذا الاستبعاد لا يستفاد من العطف بثم، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعدما تقدّم مما لا يقتضي وقوعها، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله تعالى، والتسليم لأقضيته، فصدر مهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها، بما شاهدت، والتعنت والتكذيب، حتى نقل أنهم بعدما حيي القتيل، وأخبر بمن قتله قالوا: كذب.
والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل، قاله ابن عباس، وهم الذين قتلوه، وأنكروا قتله.
وقيل: قلوب بني إسرائيل جميعًا قست بمعاصيهم وما ارتكبوه، قاله أبو العالية وغيره.
وكنى بالقسوة عن نبوّ القلب عن الاعتبار، وأن المواعظ لا تجول فيها.
وأتى بمن في قوله: {من بعد ذلك} إشعارًا بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى ثم، ومعنى من، فلابد من تجوّز في أحدهما.
والتجوز في ثم أولى، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة، فينحرفون إثرها إلى المعصية عنادًا وتكذيبًا، والإشارة بذلك قيل: إلى إحياء القتيل، وقيل: إلى كلام القتيل، وقيل: إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، قاله الزجاج.
{فهي كالحجارة}: يريد في القسوة.
وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة، ويعني أن قلوبهم صلبة، لا تخلخلها الخوارق، كما أن الحجر خلق صلبًا.
وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض، بل خلق ذلك فيها خلقًا أوليًا، كما أن صلابة الحجر كذلك.
والكاف المفيدة معنى التشبيه: حرف وفاقًا لسيبويه وجمهور النحويين، خلافًا لمن ادّعى أنها تكون اسمًا في الكلام، وهو عن الأخفش.
فتعلقه هنا بمحذوف، التقدير: فهي كائنة كالحجارة، خلافًا لابن عصفور، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو.
والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس.
وجمعت الحجارة ولم تفرد، فيقال كالحجر، فيكون أخصر، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع، لأنه قوبل الجمع بالجمع، لأن قلوبهم جمع، فناسب مقابلته بالجمع، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة.
فلو قيل: كالحجر، لأفهم ذلك عدم التفاوت، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك.
{أو أشدّ قسوة}، أو: بمعنى الواو، أو بمعنى أو للابهام، أو للإباحة، أو للشك، أو للتخيير، أو للتنويع، أقوال: وذكر المفسرون مثلًا لهذه المعاني، والأحسن القول الأخير.
وكأن قلوبهم على قسمين: قلوب كالحجارة قسوة، وقلوب أشدّ قسوة من الحجارة، فأجمل ذلك في قوله: {ثم قست قلوبكم}، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة، وإلى أشدّ منها، إذ ما كان أشدّ، كان مشاركًا في مطلق القسوة، ثم امتاز بالأشدية.
وانتصاب قسوة على التمييز، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل، لأن كلًا منهما ينتصب عنه التمييز.
تقول: زيد كعمرو حلمًا، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل، منقول من المبتدأ، وهو نقل غريب، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافًا إليه مقامه.
تقول: زيد أحسن وجهًا من عمرو، وتقديره: وجه زيد أحسن من وجه عمرو، فأخرت وجهًا وأقمت ما كان مضافًا مقامه، فارتفع بالابتداء، كما كان وجه مبتدأ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك: من وجه عمرو، وإقامة عمرو مقامه، فقلت: من عمرو، وإنما كان الأصل ذلك، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه، ونظير هذا: مررت بالرجل الحسن الوجه، أو الوجه أصل هذا الرفع، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه، وإنما أوضحنا هذا، لأن ذكر مجيء التمييز منقولًا من المبتدأ غريب، وأفرد أشدّ، وإن كانت خبرًا عن جمع، لأن استعمالها هنا هو بمن، لكنها حذفت، وهو مكان حسن حذفها، إذ وقع أفعل التفضيل خبرًا عن المبتدأ وعطف، أو أشد، على قوله: كالحجارة، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد، كما تقول: زيد على سفر، أو مقيم، فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون التقدير: أو هي أشدّ قسوة، فيصير من عطف الجمل.
والثاني: أن يكون، التقدير: أو مثل أشدّ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه، ويكون الضمير في أشدّ إذ ذاك غير عائد على القلوب، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة، فالضمير في أشدّ عائد على ذلك الموصوف بأشدّ المحذوف.
ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش، بنصب الدال عطفًا على، كالحجارة، قاله الزمخشري.
وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة.
وأما على قراءة الرفع، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه، ولا إضمار فيه، فكان أرجح.
وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله: إنه معطوف على الكاف، فقال: هو على مذهب الأخفش، لا على مذهب سيبويه، لأنه لا يجيز أن يكون إسمًا إلا في الشعر، ولا يجيز ذلك في الكلام، فكيف في القرآن؟ فأولى أن يكون: أشدّ، خبر مبتدأ مضمر، أي وهي أشدّ. انتهى كلامه.
وما ذهب إليه الزمخشري صحيح، ولا يريد بقوله: معطوف على الكاف، أن الكاف اسم، إنما يريد معطوفًا على الجار والمجرور، لأنه في موضع مرفوع، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور.
وقوله: فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر، أي هي أشدّ، قد بينا أن الأولى غير هذا، لأنه تقدير لا حاجة إليه.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال أشدّ قسوة؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب، قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة.
ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدّة، كأنه قيل: اشتدّت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة. انتهى كلامه.
ومعنى قوله: وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبني منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة، والنقص مثبت.
وفي كونه من أفعل، أو من كون، أو من مبني للمفعول خلاف.
وقرأ أبو حياة: أو أشدّ قساوة، وهو مصدر لقسا أيضًا.
{وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار}: لما شبه تعالى قلوبهم بالحجارة في القسوة، ثم ذكر أنها أشد قسوة على اختلاف الناس في مفهوم، أو بين أن هذا التشبيه إنما هو بالنسبة لما علمه المخاطب من صلابة الأحجار، وأخذ يذكر جهة كون قلوبهم أشدّ قسوة: والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ، ولا تتأثر للزواجر، وإن من الحجارة ما يقبل التخلخل، وأنها متفاوتة في قبول ذلك، على حسب التقسيم الذي أشار إليه تعالى ونتكلم عليه.
فقد فضلت الأحجار على قلوبهم في أن منها ما يقبل التخلخل، وأن قلوب هؤلاء في شدّة القساوة.
واختلف المفسرون في هذه الآية، فقال قوم: إن قوله: {وإن من الحجارة} إلى آخره، هو على سبيل المثل، بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى، وتشقق من هيبته، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور، والنظر في عواقب الأشياء، ومع ذلك فقلوبكم أشدّ قسوة، وأبعد عن الخير.
وقال قوم: ليس ذلك على جهة المثل: بل أخبر عن الحجارة بعينها، وقسمها لهذه الأقسام، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة.
وقرأ الجمهور: وإنّ مشدّدة، وقرأ قتادة: وإن مخففة، وكذا في الموضعين بعد ذلك، وهي المخففة من الثقيلة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون معملة، ويكون من الحجارة في موضع خبرها، وما في موضع نصب بها، وهو اسمها، واللام لام الابتداء، أدخلت على الاسم المتأخر، والاسم إذا تأخر جاز دخول اللام عليه، نحو قوله: {وإن لك لأجرًا}، وأعمالها مخففة لا يجيزه الكوفيون، وهم محجوجون بالسماع الثابت من العرب، وهو قولهم: إن عمرو لمنطلق، بسكون النون، إلا أنها إذا خففت لا تعمل في ضمير لا، تقول: إنك منطلق، إلا أن ورد في الشعر.
والوجه الثاني: أن لا تكون معملة، بل تكون ملغاة، وما في موضع رفع بالابتداء، والخبر في الجار والمجرور قبله.
واللام في لما مختلف فيها، فمنهم من ذهب إلى أنها لام الابتداء لزمت للفرق بين أن المؤكدة وإن النافية، وهو مذهب أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير.
وأكثر نحاة بغداد، وبه قال: من نحاة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر، ومنهم من ذهب إلى أنها لام اختلست للفرق، وليست لام الابتداء، وبه قال أبو علي الفارسي.
ومن كبراء بلادنا ابن أبي العالية، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو.
ولم يذكر المفسرون والمعربون في إن المخففة هنا إلا هذا الوجه الثاني، وهو أنها الملغاة، وأن اللام في لما لزمت للفرق.
قال المهدوي: من خفف إن، فهي المخففة من الثقيلة، واللام لازمة للفرق بينها وبين إن التي بمعنى ما.
وقال ابن عطية: فرق بينها وبين النافية لام التوكيد في لما.
وقال الزمخشري: وقرئ: و{إن} بالتخفيف، وهي إن المخففة من الثقيلة التي يلزمها اللام الفارقة، ومنه قوله تعالى: {وإن كلّ لما جميع} وجعلهم إن هي المخففة من الثقيلة، هو مذهب البصريين.
وأما الفراء فزعم فيما ورد من ذلك أنّ إن هي النافية، واللام بمعنى إلا، فإذا قلت: إن زيد لقائم، فمعناه عنده: ما زيد إلا قائم.
وأما الكسائي فزعم أنها إن وليها فعل، كانت إن نافية، واللام بمعنى إلا، وإن وليها اسم، كانت المخففة من الثقيلة.
وذهب قطرب إلى أنها إذا وليها فعل، كانت بمعنى قد، والكلام على هذا المذهب في كتب النحو.
وقرأ الجمهور: لما بميم مخففة وهي موصولة.
وقرأ طلحة بن مصرف: لما بالتشديد، قاله في الموضعين، ولعله سقطت واو، أي وفي الموضعين.
قال محمد بن عطية: وهي قراءة غير متجهة، وما قاله ابن عطية من أنها غير متجهة لا يتمشى إلا إذا نقل عنه أنه يقرأ وإنّ بالتشديد، فحينئذ يعسر توجيه هذه القراءة.
أما إذا قرأ بتخفيف إن، وهو المظنون به ذلك، فيظهر توجيهها بعض ظهور، إذ تكون إن نافية، وتكون لما بمنزلة إلا، كقوله تعالى: {إن كل نفس لما عليها حافظ} {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} في قراءة من قرأ لما بالتشديد، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه، التقدير: وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار، وكذلك ما فيها، كقوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم، {وإن من أهل الكتاب ليؤمن به قبل موته} أي وما من أهل الكتاب أحد، وحذف هذا المبتدأ أحسن، لدلالة المعنى عليه، إلا أنه يشكل معنى الحصر، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة، فمنها ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله.
وإذا حصرت، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها، أي تتفجر منه الأنهار، ويتشقق منه الماء، ويهبط من خشية الله.
ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية، إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع فيه، إذا أرد الله ذلك.
فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير: أن يقرأ طلحة، وإن بالتخفيف.
وأما إن صح عنه أنه يقرأ وإن بالتشديد، فيعسر توجيه ذلك.
وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية، فلا يصح قوله، ولا يثبت ذلك في لسان العرب.
ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد، مع قراءة إن بالتشديد، بأن يكون اسم إن محذوفًا لفهم المعنى، كما حذف في قوله:
ولكن زنجيّ عظيم المشافر

وفي قوله:
فليت دفعت الهم عني ساعة

وتكون لما بمعنى حين، على مذهب الفارسي، أو حرف وجوب لوجوب، على مذهب سيبويه.
والتقدير: وإن منها منقادًا، أو لينًا، وما أشبه هذا.
فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وصاحبها، فحذف الاسم وحده أسهل.
وقرأ الجمهور: يتفجر بالياء، مضارع تفجر.
وقرأ مالك بن دينار: ينفجر بالياء، مضارع انفجر، وكلاهما مطاوع.
أما يتفجر فمطاوع تفجر، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففًا.
والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة، والانفجار دونه، والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر.
وقرأ أبيّ والضحاك: منها الأنهار.
وقرأ الجمهور منه.
فالقراءة الأولى حمل على المعنى، وقراءة الجمهور على اللفظ، لأن ما لها هنا لفظ ومعنى، لأن المراد به الحجارة، ولا يمكن أن يراد به مفردًا لمعنى، فيكون لفظه ومعناه واحدًا، إذ ليس المعنى {وإن من الحجارة} للحجر الذي يتفجر منه الماء، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار.
وقد سبق الكلام على الأنهار في قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية.
وقد ذهب بعضهم إلى أن الحجر الذي يتفجر منه الأنهار، هو الحجر الذي ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا.
{وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء}، التشقق: التصدّع بطول أو بعرض، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهرًا.
وقرأ الجمهور: يشقق، بتشديد الشين، وأصله يتشقق، فأدغم التاء في الشين.
وقرأ الأعمش: تشقق، بالتاء والشين المخففة على الأصل، ورأيتها معزوّة لابن مصرّف.
وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية.
ما نصه: وقرأ ابن مصرّف: ينشقق، بالنون وقافين، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشدّدة، وقد يجيء الفك في شعر، فإن كان المضارع مجزومًا، جاز الفك فصيحًا، وهو هنا مرفوع، فلا يجوز الفك، إلا أنها قراءة شاذة، فيمكن أن يكون ذلك فيها، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما، فلا يجوز.
قال أبو حاتم: لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز تتشقق بالتاء، لأنه إذا قال: تتفجر فأنثه لتأنيث الأنهار، ولا يكون في تشقق.
وقال أبو جعفر النحاس: يجوز ما أنكره أبو حاتم حملًا على المعنى، لأن المعنى: وإن منها للحجارة التي تشقق، وإمّا يشقق بالياء، فمحمول على اللفظ.
انتهى، وهو كلام صحيح.
ولم ينقل هنا أن أحدًا قرأ منها الماء، فيعيد على المعنى، إنما نقل ذلك في قوله: لما يتفجر منه الأنهار، فكان قوله {يتفجر} حملًا على اللفظ ومنها حملًا على المعنى ومحسن هذا هنا أنه ولى الضمير جمع وهو الأنهار، فناسب الجمع الجمع، ولأن الأنهار من حيث هي جمع، يبعد في العادة أن تخرج من حجر واحد، وإنما تخرج الأنهار من أحجار، فلذلك ناسب مراعاة المعنى هنا.
وأما فيخرج منه الماء، فالماء ليس جمعًا، فلا يناسب في حمل منه على المعنى، بل أجرى يشقق، ومنه على اللفظ.
{وإن منها لما يهبط من خشية الله}، الهبوط هنا: التردّي من علو إلى أسفل.
وقرأ الأعمش: يهبط، بضم الباء، وقد تقدم أنها لغة.
وخشية الله: خوفه.
واختلف المفسرون في تفسير هذا، فذهب قوم إلى أن الخشية هنا حقيقة.
واختلف هؤلاء، فقال قوم معناه: من خشية الحجارة لله تعالى، فهي مصدر مضاف للمفعول، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزًا قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل، واستدل على ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية، وبعضها بالإرادة، ووصف جميعها بالنطق والتحميد والتقديس والتأويب والتصدّع، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة.
قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} الآية، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} {يا جبال أوّبي معه والطير} وفي الحديث الصحيح: «إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وأنه بعد مبعثه ما مرّ بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه» وفي حديث الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام وصار يعدو خلفه ويقول: «ثوبي حجر ثوبي حجر».
وفي الحديث عن أحد: «أن هذا جبل يحبنا ونحبه» وفي حديث حراء: «لما اهتز أسكن حراء» وفي حديث: «تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات، وانقياد الشجر وغير ذلك.
فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة، وصفة ناطقة، وحركة اختيارية، لما صدر عنها شيء من ذلك، ولا حسن وصفها به.
وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة.
وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر أضيف إلى فاعل.
والمراد بالحجر الذي يهبط من خشية الله هو البرد، والمراد بخشية الله: إخافته عباده، فأطلق الخشية، وهو يريد الإخشاء، أي نزول البرد به، يخوّف الله عباده، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي.
وهذا قول متكلف، وهو مخالف للظاهر.
والبرد ليس بحجارة، وإن كان قد اشتدّ عند النزول، فهو ماء في الحقيقة.
وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر مضاف للمفعول، وفاعله محذوف، وهو العباد.
والمعنى: أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه.
وتحقيقه: أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط، فكان المعنى: لما يهبط من أجل أن يحصل لعباد الله تعالى.
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في قوله: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} عائد على القلوب، والمعنى: أن من القلوب قلوبًا تطمئن وتسكن، وترجع إلى الله تعالى، فكنى بالهبوط عن هذا المعنى، ويريد بذلك قلوب المخلصين.
وهذا تأويل بعيد جدًا، لأنه بدأ بقوله: {وإن من الحجارة}، ثم قال: {وإن منها}، فظاهر الكلام التقسيم للحجارة، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح، والهبوط لا يليق بالقلوب، إنما يليق بالحجارة.
وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأوّلناها.
وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة، وإن كان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض.
وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، إذ جعله دكًا.
وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى: {يريد أن ينقضّ} وكما قال زيد الخيل:
بجمع تضل البلق في حجراته ** ترى الاكم منه سجدًا للحوافر

وكما قال الآخر:
لما أتى خبر الزبير تضعضعت ** سور المدينة والجبال الخشع

أي من رأى الحجر متردّيًا من علوّ إلى أسفل، تخيل فيه الخشية، فاستعار الخشية، كناية عن الانقياد لأمر الله، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها.
فمن يراها يظنّ أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى.
وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات، وذلك ممتنع عندهم.
وتأوّلوا ما ورد في القرآن والحديث، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة، هي التي تسلم وتتكلم، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش، تنادي: اللهم صِل من وصلني، واقطع من قطعني.
والأرحام ليست بجسم، ولا لها إدراك، ويستحيل أن تسجد المعاني، أو تتكلم، وإنما قرن الله تعالى بها ملكًا يقول ذلك القول.
وتأوّلوا: هذا جبل يحبنا ونحبه، أي يحبه أهله ونحب أهله، كقوله تعالى: {واسئل القرية} واختيار ابن عطية، رحمه الله تعالى، أن الله يخلق للحجارة قدرًا مّا من الإدراك، تقع به الخشية والحركة.
واختيار الزمخشري أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى وعدم امتناعها، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جدًا، وهو على حسب الترقي.
فبدأ أولًا بالذي تتفجر منه الأنهار، أي خلق ذا خروق متسعة، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاج أن يضاف إليها صدور فعل منها.
ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالًا يسيرًا، وهو أن يصدر منه تشقق بحيث ينبع منه الماء.
ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالًا عظيمًا، بحيث يتحرك ويتدهده من علو إلى أسفل، ثم رسخ هذا الانفعال التامّ بأن ذلك هو من خشية الله تعالى، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد، لأن من خشي أطاع وانقاد.
{وما الله بغافل عما تعملون}: هذا فيه وعيد، وذلك أنه لما قال: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك}، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة، من مخالفة الله تعالى، ومعاندة رسله، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم، بل هو تعالى يحصيها عليهم، وإذا لم يفغل عنها كان مجازيًا عليها.
والغفلة إن أريد بها السهو، فالسهو لا يجوز على الله تعالى، وإن أريد بها الترك عن عمد، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به.
وعلى كلا التقديرين، فنفى الله تعالى الغفلة عنه.
وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلًا، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه.
وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل، قال: لأنه يوهم جواز الغفلة عليه، وليس الأمر كما ذهب إليه، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} وقوله: {وهو يطعم ولا يطعم} فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له.
وبغافل: في موضع نصب، على أن تكون ما حجازية.
ويجوز أن تكون في موضع رفع، على أن تكون ما تميمية، فدخلت الباء في خبر المبتدأ، وسوّغ ذلك النفي.
ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول: زيد بقائم، ولا: ما زيد إلا بقائم.
قال ابن عطية: وبغافل في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه، بل القائلون قائلان، قائل: بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه، وتبعه الزمخشري.
وقائل: بأنه يجوز أن يجر بالباء، وهو الصحيح.
وقال الفرزدق:
لعمرك ما معن بتارك حقه

وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيرًا.
وقرأ الجمهور: تعملون بالتاء، وهو الجاري على نسق قوله: {ثم قست قلوبكم}.
وقرأ ابن كثير بالياء، فيحتمل أن يكون الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل، ويكون ذلك التفاتًا، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى: {ثم قست قلوبكم} إلى الغيبة في قوله: {يعملون}.
وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب، وجعلهم كالغائبين عنه، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه، وتأنيس له، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة فصولًا عظيمة، ومحاورات كثيرة، وذلك أن موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، شافههم بأن الله تعالى يأمرهم بذبح البقرة، وذلك امتحان من الله تعالى لهم، فلم يبادروا لامتثال أمر الله تعالى، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ، إذ لم يفهموا سر الأمر.
وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال، فأجابهم موسى باستعاذته بالله الذي أمره أن يكون ممن جهل، فيخبر عن الله بما لم يأمره به، فردّ عليهم بأن استعمال الهزؤ في التبليغ عن الله تعالى، وفي غيره، وهو يستعيذ منه، فرجعوا إلى قوله، وتعنتوا في البقرة، وفي أوصافها، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة، إذ المأمور به بقرة مطلقة، فسألوا ما هي؟ وسألوا موسى أن يدعو الله تعالى أن يبينها لهم، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم، فأخبر عن الله تعالى بسنها.
ثم خاف من كثرة سؤالهم، ومن تعنتهم، كما جاء، إنما أهلك بني إسرائيل كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون، حتى قطع سؤالهم، فلم يلتفتوا إلى أمره، وسألوا أن يسأل الله تعالى ثانيًا عن لونها، إذ قد أخبروا بسنها، فأخبرهم عن الله تعالى بلونها، ولم يأمرهم ثانيًا أن يفعلوا ما يؤمرون به، إذ علم منهم تعنتهم، لأنهم خالفوا أمر الله أولًا في قوله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، وخالفوا أمر موسى ثانيًا في قوله: {فافعلوا ما تؤمرون}.
فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال.
فسألوا ثالثًا أن يسأل الله عنها، فأخبرهم عن الله تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاء بالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالًا لأمر الله تعالى، وذلك بعد ترديد كثير وبطء عظيم، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها.
ثم أخبر تعالى عنهم بقتل النفس، وتدافعهم فيمن قتلها، واختلافهم في ذلك، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة، فضربوه فحيي بإذن الله، وانكشف لهم سرّ أمر الله بذبح البقرة، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق، ما يحصل به العلم الضروري الدال على صدق موسى عليه السلام، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
ثم بين تعالى أن مثل هذ الإحياء يحيي الموتى، إذ لا فرق بين الإحياءين في مطلق الإحياء.
ثم أخبر تعالى بأنه يريهم آياته، لينتج عن تلك الإراءة كونهم يصيرون من أولي العقل، الناظرين في عواقب الأمور، المفكرين في المعاد.
ثم أخبر تعالى بعد ذلك أنهم على مشاهدتهم هذا الخارق العظيم، ورؤيتهم الآيات قبل ذلك، لم يتأثروا لذلك، بل ترتب على ذلك عكس مقتضاه من القسوة الشديدة، حتى شبه قلوبهم بالحجارة، أو هي أشد من الحجارة.
ثم استطرد لذكر الحجارة بالتقسيم الذي ذكره، على أن الحجارة تفضل قلوبهم في كون بعضها يتأثر تأثيرًا عظيمًا، بحيث يتحرك ويتدهده، وكون بعضها يتشقق فيتأثر تأثيرًا قليلًا، فينبع منه الماء، وكون بعضها خلق منفرجًا تجري منه الأنهار، وقلوبهم على سجية واحدة، لا تقبل موعظة، ولا تتأثر لذكري، ولا تنبعث لطاعة.
ثم ختم ذلك بأنه تعالى لا يغفل عما اجترحوه في دار الدنيا، بل يجازيهم بذلك في الدار الأخرى.
وكان افتتاح هذه الآيات بأن الله تعالى يأمر، واختتامها بأن الله لا يغفل.
فهو العالم بمن امتثل، وبمن أهمل، فيجازي ممتثل أمره بجزيل ثوابه، ومهمل أمره بشديد عقابه. اهـ.